فتح نيوز|
ما هو قرار مكتب المدعي العام الجديد؟
في 3 آذار 2021، قرر مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية (”المحكمة”) فتح تحقيق بخصوص “الحالة في فلسطين”، حيث يغطي التحقيق الجرائم الواقعة في اختصاص المحكمة، والتي ارتكبت منذ 13 حزيران 2014.
وبهذا تم نقل الحالة في فلسطين من مرحلة الدراسة الأولية إلى مرحلة التحقيق، حيث أكدت المدعية العامة فاطو بنسودا في موجز نتائج الدراسة الأولية بأن التحقيق سيرتكز بوجه خاص على أربعة ملفات مركزية:
● ارتكاب القوات الإسرائيلية جرائم حرب في سياق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في العام 2014.
● ارتكاب أفراد من حماس ومجموعات فلسطينية مسلحة جرائم حرب في سياق حرب الـ 2014.
● ملف الاستيطان في سياق احتلال إسرائيل للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وبالتحديد ارتكاب أفراد من السلطات الإسرائيلية جرائم حرب فيما يتعلق، ضمن أمور أخرى، بنقل مدنيين إسرائيليين إلى الضفة الغربية.
● ارتكاب أفراد من القوات الإسرائيلية لجرائم عبر استخدام وسائل غير مميتة ومميتة ضد فلسطينيين مشاركين في مسيرات العودة الكبرى التي بدأت في آذار 2018.
خلفية القرار
المحكمة الجنائية الدولية
تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في العام 2002 لتكون أول محكمة جنائية دولية دائمة، للتحقيق مع، ومقاضاة أفراد مشتبه بهم بارتكاب الجرائم الدولية الأشد خطورة، وهي: جريمة الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة العدوان.
أنشئت المحكمة بموجب نظام روما الأساسي (“نظام روما”) الذي انضمت له 123 دولة حتى اليوم. للمحكمة شخصية قانونية دولية، ولها الأهلية القانونية اللازمة لممارسة وظائفها وسلطتها في أي إقليم أو دولة طرف لنظام روما، كما أنها تستطيع ممارسة صلاحياتها في أي دولة غير عضو بموجب اتفاق عيني. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من كونها مستقلة عن الأمم المتحدة، فإن لدى المحكمة اتفاق خاص مع المنظمة يتيح إحالة مجلس الأمن لحالة في دولة ما للمحكمة ومنحها الولاية الإقليمية كما حصل في حالتي السودان وليبيا.
أنشأ نظام روما ثلاثة أجسام، وهي: المحكمة الجنائية الدولية، وجمعية الدول الأطراف في نظــــام رومــــا الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (“جمعية الدول الأطراف”)، والصندوق الائتماني للضحايا.
تتألف المحكمة من أربعة أجهزة أساسية، وهي: هيئة الرئاسة، المكونة من ثلاثة من قضاة المحكمة وتشرف على إدارة المحكمة باستثناء مكتب المدعي العام والعلاقات الخارجية للمحكمة. شعب أو دوائر القضاة، وهي: الدائرة التمهيدية، والدائرة الابتدائية، ودائرة الاستئناف، وتشكل جميعها الجسم القضائي للمحكمة. مكتب المدعي العام: هو الجهاز المسؤول عن التحقيق ومقاضاة المشتبه بارتكابهم الجرائم. وقلم المحكمة الذي يوفر الدعم لأجهزة المحكمة الأخرى كافة، ويكون مسؤولًا بشكل عام عن العمل اليومي المرتبط بإدارة المحكمة وعلاقاتها الخارجية كمنظمة.
تشكل الدول الأعضاء في المحكمة “جمعية الدول الأطراف في نظــــام رومــــا الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”، التي تعمل بمثابة الجسم الرقابي والتشريعي لإدارة المحكمة، حيث تعتبر الجمعية مسؤولة عن قضايا: الموازنة المالية، وانتخاب القضاة، والمدعي العام، وصياغة القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات وتبنيها بالإضافة إلى وثائق ثانوية أخرى تحتاجها المحكمة وغيرها.
تحصل المحكمة على تمويلها من الدول الأعضاء بالأساس، إلا أنها تستطيع قبول التبرعات من حكومات، ومؤسسات دولية وأفراد وشركات وغيرها. تشكل المحكمة هيئة قضائية فقط، وبالتالي فهي لا تمتلك شرطة أو أي جسم مسؤول عن تطبيق أحكامها، لذلك فهي تعتمد كليًا على التعاون مع الدول الأعضاء (أو غيرها من الدول التي قد تتطوع للتعاون مع المحكمة) بهذا الشأن. يتمثل هذا التعاون في تنفيذ أوامر الاعتقالات، ونقل المعتقلين لمركز الاعتقال التابع للمحكمة في لاهاي، وتجميد أصول المشتبه بهم، وتنفيذ الأحكام النهائية وغيرها. لذلك، على الرغم من استقلالها على المستوى القضائي، فإن هذا الارتباط بالدول على المستوى المالي وعلى مستوى تطبيق أحكامها يؤدي إلى عرقلة عمل المحكمة ويجعله عرضة للمزاج السياسي لهذه الدول، وعلاقات القوة في المشهد السياسي الدولي. كل هذا من دون الإشارة للضغوطات السياسية المباشرة التي تمارس على المحكمة، والتي سيتم التطرق لها في حالة فلسطين لاحقًا.
كيف أصبحت “الحالة في فلسطين”أمام المحكمة الجنائية الدولية؟
يأتي هذا القرار على ضوء المحاولات الفلسطينية لمساءلة إسرائيل ومحاسبة مسؤوليها السياسيين والعسكريين على المستوى الجنائي. بدأت أولى هذه المحاولات في 22 كانون الثاني 2009 حين أودعت فلسطين إعلانها الأول وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يتيح للدول قبول اختصاص المحكمة.[7] بعد إيداع فلسطين لهذا الإعلان، قام المدعي العام حينها لويس مورينو اوكامبو بفتح دراسة أولية حول فلسطين، لكنه أعلن في 3 نيسان 2012 بإنه لن يستطيع الانتقال إلى مرحلة التحقيق لإشكالية عدم وضوح مكانة فلسطين كدولة بموجب القانون الدولي، لكنه أكد استعداد مكتبه للتحقيق في شبهات ارتكاب جرائم في فلسطين، في حال تمت تسوية أمر مكانتها القانونية أمام الهيئات المختصة في منظومة الأمم المتحدة.
في هذه السنوات، بدأت السلطة الفلسطينية العمل على انتزاع اعتراف دولي بدولة “فلسطين” على الرغم من وجود الاحتلال، وذلك بعد تعثر المفاوضات بينها وبين إسرائيل. قدمت السلطة الفلسطينية طلبات للانضمام إلى الأمم المتحدة ومؤسسات دولية أخرى، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أعقابها القرار 67/19 في تشرين الثاني من العام 2012 والذي تم بموجبه الاعتراف بفلسطين “دولة غير عضو بصفة مراقب في الأمم المتحدة”. مهد هذا القرار الطريق لانضمام “دولة فلسطين” إلى مؤسسات دولية أخرى، بالإضافة إلى توقيعها على العديد من المعاهدات والمواثيق دولية.
وعلى الرغم من ذلك، لم يمثل الاعتراف بالدولة الذي بدأ في العام 2009 مسارًا استراتيجيًا قانونيًا ممُنهجًا لمحاسبة إسرائيل دوليًا ضمن سياق مشروع سياسي فلسطيني تحرري؛ بل كان أداة للضغط على إسرائيل ضمن مسار المفاوضات، وهو ما يظهر بوضوح في الموقف الفلسطيني المتردد الي تجلّى أخيرًا في قرار العمل على سحب مشروع قرار في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في العام 2009، حيث كان من المفترض أن يتبنّى القرار تقرير جولدستون الذي يدين ويوثق جرائم إسرائيل خلال الحرب على غزة في العام 2008/2009، والتي راح ضحيتها أكثر من 1400 شهيد/ة.
على ضوء هذا التردد، لم تودع فلسطين إعلانها الثاني بموجب نظام روما (وصك انضمامها للمحكمة للأمين العام للأمم المتحدة)، إلا في بداية العام 2015 في أعقاب الضغوطات التي مورست عليها للانضمام في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة في العام 2014، معلنة بذلك قبولها اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على الجرائم الدولية المرتكبة على أرضها منذ 13 حزيران 2014.
في أعقاب ذلك، شرعت المدعية العامة فاطو بنسودا بدراسة أولية ثانية لـ”الحالة في فلسطين”، استمرت من العام 2015 حتى العام 2019. وفي هذه الأثناء قدمت منظمات حقوقية فلسطينية ومحامو الضحايا العديد من الملفات الداعمة للدراسة الأولية للمدعية العامة، إلا أن القيادة الفلسطينية لم تفعل عضويتها في المحكمة بشكل جدي إلا في العام 2018 حيث أحالت “الحالة في فلسطين” للمحكمة ردًا على قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إلى القدس. تورد الإحالة مطالبة المحكمة بالتحقيق في الجرائم التي وقعت منذ حزيران 2014 كما الجرائم المستمر حصولها وتلك التي سيتم ارتكابها مستقبلًا.
في 20 كانون الأول 2019 أعلنت المدعية العامة عن انتهاء الدراسة الأولية، مؤكدةً بأن جرائم حرب كانت قد ارتكبت أو ما زالت ترتكب في الضفة الغربية وفي غزة، وبأن بعض الملفات المحتملة التابعة للحالة ستكون مقبولة بحسب نظام المحكمة. على الرغم من ذلك، قررت المدعية العامة ألّا تباشر بفتح التحقيق بنفسها وفق الصلاحيات المعطاة لها، ورفعت طلبًا للدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة (“الدائرة التمهيدية”)، تلتمس منها تأكيدًا بأن “الإقليم” الذي يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها عليه في “الحالة في فلسطين” يشمل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة. ويرجح أن المدعية العامة فعلت ذلك التماسًا لدعم المحكمة على ضوء الضغوطات السياسية التي تعرضت لها لمنع فتح التحقيق، حيث أكدت في بيانها حول الموضوع بأن قضية الولاية الإقليمية للمحكمة في حالة فلسطين تثير “مسائل فريدة ومحل خلاف شديد”.
للبت في القضية، طلبت الدائرة التمهيدية للمحكمة من أطراف مختلفة تقديم مذكرات مكتوبة حول سؤال الولاية الإقليمية، كما فتحت الباب لتقديم إفادات أصدقاء المحكمة من قبل مختصين وأطراف معنية. في نهاية الإجراء تلقت الدائرة التمهيدية – وصادقت على قبول – 43 مذكرة أصدقاء المحكمة (منهم دول، ومختصون/ات، ومراكز دراسات، ومؤسسات حقوق إنسان فلسطينية، وغيرها)، بالإضافة لعشر مذكرات من محامي الضحايا، ومذكرة من “دولة فلسطين”. رفضت إسرائيل قبول دعوة المحكمة تقديم مذكرات مكتوبة، إلا أنها نشرت مذكرة بواسطة المستشار القضائي للحكومة أكدت فيها بأن فلسطين ليست دولة ولا تستوفي الشروط لذلك، تحديدًا في ما يتعلق بمسألة السيادة، وبالتالي فهي لا تستطيع منح ولايتها الإقليمية للمحكمة. لم يتطرق المستشار القضائي إطلاقًا لمسألة جرائم الحرب المرتكبة، واكتفى بالتأكيد على كون إسرائيل قادرة على التعامل مع “مظالم” الفلسطينيين، وبأن لديها آليات متعددة لفعل لذلك، بالإضافة إلى المفاوضات الثنائية المباشرة مع الفلسطينيين.
على الرغم من رفضها التعامل المباشر مع المحكمة، فقد عملت إسرائيل جاهدة على ضمان تقديم مذكرات داعمة لها ومعارضة للموقف الفلسطيني من قبل جهات متعددة. قدمت العديد من المؤسسات الإسرائيلية وغير الإسرائيلية، بالإضافة لخبراء حقوقيين معروفين، ودولًا حليفة لها (ألمانيا وأستراليا والتشيك والنمسا وهنغاريا والبرازيل وأوغندا)، مذكرات تشرح وجهة النظر الإسرائيلية. أدعى مقدمو هذه المذكرات في الغالب بأن فلسطين ليست دولة ولا تحقق شروط القانون الدولي بخصوص السيادة، كما استعان بعض هؤلاء باتفاقية أوسلو لتدعيم هذا الموقف، كون الاتفاق يفرض تقييدات جمة على السيادة القانونية لفلسطين، مما يمنعها من نقل ولايتها للمحكمة. وبهذا تضمن إسرائيل نقل ادعاءاتها القانونية والسياسية للمحكمة، مع حفاظها على وضعية وموقف الطعن في شرعية المحكمة وما يصدر عن المسار المتعلق في “الحالة في فلسطين”.
على الرغم من ذلك، توصلت الدائرة التمهيدية يوم 5 شباط 2021، إلى قرار بالأغلبية يقضي بأن فلسطين هي دولة طرف في نظام روما الأساسي، وبالتالي هي دولة قادرة على نقل اختصاصها الإقليمي للمحكمة، وهو اختصاص يشمل الأرض الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل منذ العام 1967، وهي: غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
التداعيات والإسقاطات القانونية للقرار
يعني قرار فتح التحقيق من قبل المدعية العامة انتقال الحالة من الدراسة الأولية التي تتضمن فحصًا عامًا للوقائع والجرائم المشتبه بارتكابها وأيضًا التعامل مع أسئلة أولية كالولاية الإقليمية للمحكمة، إلى حالة التحقيق، حيث يتحول البحث في الحالة لبحث جنائي معمق، مع تشخيص واضح للجرائم والمتهمين، كما الحقائق المتعلقة بها والبحث عن الأدلة والشهود.
يتم في هذه المرحلة تحديد متهمين أفراد من قيادات عسكرية وسياسية، من المهم الإشارة هنا إلى أن المحكمة هي محكمة جنائية تتعامل مع مسؤولية الأفراد لا الدول، وهي تعنى بالجرائم الكبرى، وبالتالي تتعامل مع المسؤولين الأساسيين عن ارتكابها في هذه الدول من قيادات عسكرية وسياسية عليا (رؤساء الدولة، وزراء، جنرالات وقيادات الجيش وأجهزة الأمن)، وليس الضباط أو الجنود أو غيرهم من متخذي/ منفذي القرارات في الرتب الأكثر انخفاضًا. قد ينتج عن التحقيق إصدار لوائح اتهام وأوامر اعتقال بحق هؤلاء، وفي حالة فلسطين هذا يعني القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ولأن الملفات التي أمام المدعية العامة تشمل جرائم يدعى أيضًا ارتكابها من قبل فصائل فلسطينية، على رأسها حماس، هذا قد يعني لوائح اتهام وأوامر اعتقال بحق هؤلاء أيضًا.
في هذه الحالة، كما أوضح سابقًا، سيكون على كل واحدة من الـدول الـ 123 الموقعة على نظام روما اعتقال الموجودين في أراضيها من المتهمين وتسليمهم إلى المحكمة. فيما يتعلق بإسرائيل، بالإضافة إلى التأثيرات الكبيرة على صورتها، فإن الأثر الأساسي في هذا السياق هو تقييد قدرة مسؤولين إسرائيليين على السفر والتنقل في دول العالم.
أما بخصوص الفصائل الفلسطينية المقاومة وعلى رأسها “حماس”، فقد رحبت جميعها بالقرار وأعربت عن استعدادها للتعاون مع المحكمة على الرغم من ما يشكله المسار من خطورة اعتقال ومحاكمة لقياداتها، كما أكدت على تمسكها بالحق في المقاومة الذي يكفله القانون الدولي. من المهم هنا التأكيد على أن المحكمة الجنائية الدولية ليست جسمًا سياسيًا يعطي وزنًا كبيرًا لسياق ارتكاب الجرائم وعلاقات القوة التي يفرضها واقع الاحتلال على الحركات الفلسطينية المقاومة، بل هي محكمة جنائية مختصة تتعامل مع “الجرائم” والأدلة التي أمامها في سياق عيني لمحاكمة أفراد لخرقهم القانون الدولي. وعلى الرغم من أن القانون الدولي يمنح الشعوب الحق في المقاومة، إلا أن القانون الدولي الإنساني ومواثيق أخرى تفرض التزامات على الحركات المسلحة قد يراها البعض إشكالية ولا تأخذ في عين الاعتبار واقع علاقات القوة بين الحركات المسلحة والجيوش النظامية. وعلى الرغم من ذلك يبدو من تصريحات قيادات الفصائل الفلسطينية استعدادها للتعامل مع مخرجات هذا المسار والأثمان المترتبة عليه في سبيل الأفق الذي يفتحه باتجاه محاسبة إسرائيل ومسؤوليها.
مآلات القرار
يثير قرار المحكمة الكثير من التحديات في ما يتعلق مسار العدالة الجنائية الدولية، كما يثير تحديات أوسع وأعمق ذات تأثير على الفاعلين في ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لا يمكن في هذه المرحلة تحديد السيناريوهات المتوقعة لهذا المسار، لكن يمكن الحديث عن عوامل قد تمنح الأطراف الفاعلة بعض نقاط القوة أو الضعف مما قد يؤثر على مآلات قرار المحكمة الأخير.
موارد المحكمة
تتعامل المحكمة الجنائية الدولية اليوم مع 22 حالة، منها 14 حالة في مرحلة التحقيق، و8 حالات في مرحلة الدراسة الأولية، كما أن أمام المحكمة 30 ملفًا جاريًا لمتهمين ضمن حالات دول مختلفة. كل هذا يضع أعباء كبيرة على المحكمة في ظل نقاشات دائمة حول ميزانيتها واقتراحات من قبل دول في جمعية الدول الأطراف لتقليصها.وفي هذا السياق، تتهم جمعيات حقوق الإنسان الدول بإهدار مبالغ هائلة على الحروب مقابل سعيها الدائم لتقليص التمويل المخصص لإحقاق العدالة،كما تذهب مؤسسات أخرى نحو اتهام الدول باستغلال موضوع التمويل للتدخل بشكل غير مباشر في عمل المحكمة.
يسبب العبء المالي إشكاليات عديدة، منها وضع عوائق أمام المحكمة لفتح ملفات جديدة أو إطالة مدة التداول في الملفات القائمة، فمن أصل الـ 30 ملف أمام المحكمة، تم الحكم ب 7 ملفات فقط، حيث حكم بالبراءة على المتهمين في 3 ملفات، وتمت إدانة المتهمين في 4 ملفات أخرى (يستثنى من ذلك بعض الملفات التي تم إغلاقها لأسباب أخرى). وبالطبع فإن هناك أسبابًا أخرى تؤثر على عمل المحكمة إلى جانب قضية التمويل، كمسألة تعاون الدول مثلًا بخصوص تسليم المتهمين وبالتالي عدم ظهورهم في المحاكمات وغيرها، إلا أن قضية التمويل تشكل مصدر قلق واضحًا للمحكمة ومكتب الادعاء العام. في بيان المدعية العامة حول فتح التحقيق في فلسطين قالت بنسودا “ستتحدد الطريقة التي سيتبعها المكتب لوضع أولويات التحقيق في الوقت المناسب وفي ضوء التحديات العملية التي نواجهها بسبب الجائحة والموارد المحدودة المتوافرة لنا وحجم العمل الكبير الذي لدينا حالياً. ولكن هذه التحديات، مهما بلغت جسامتها وتعقيدها، لن تثنينا عن الاضطلاع بالمسؤوليات التي يفرضها النظام الأساسي على المكتب”، في إشارة إلى التحديات التي يواجهها المكتب في هذا السياق، وبالتالي تلميح للعقبات التي قد يواجهها التحقيق في الحالة في فلسطين.
من المهم الإشارة هنا إلى أن التغييرات المقبلة في مكتب الادعاء العام ستكون ذات تأثير على أولويات مكتب الادعاء وكذلك مجريات التحقيق واختيار الملفات، حيث ستنهي المدعية العامة الحالية، فاطو بنسودا، ولايتها في حزيران 2021، وقد اختارت جمعية الدول الأطراف المحامي البريطاني كريم خان لتقلُّد المنصب. من المبكر الجزم حول توجهات خان تجاه التحديات التي تواجهها المحكمة بشكل عام، وملف الحالة في فلسطين بشكل خاص، إلا أن بعض المراقبين أشاروا بأن خان كان المرشح المفضّل لإسرائيل، لكونه “براغماتي يتجنب التسييس”.
توثيق الجرائم، تحدي الأدلة
على خلاف حالات أخرى أمام المحكمة، وثقت منظمات فلسطينية حقوقية ومنظمات دولية معنية، على مدار سنوات، الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ومنها الجرائم التي تقع ضمن ولاية المحكمة والقضايا الأساسية الأربع التي يتركز عمل مكتب المدعي العام عليها. وهذا يعني أنه بالإضافة إلى المواد التي تم تقديمها حتى اليوم لمكتب المدعي العام، تستطيع هذه المنظمات الاستمرار بتسهيل عملهم عبر مدّهم بالأدلة واتاحة وصولهم للشهود.
يبرز بهذا الخصوص عمل المنظمات على جمع الشهادات والأدلة مباشرةً بعد وقوع الجرائم والمرافعة لسنوات أمام هيئات دولية حولها. فبالإضافة إلى تعاون المنظمات مع المحكمة، فهي سبق أن قدمت أدلتها وتحليلها أمام لجان في الأمم المتحدة، ومقررين خاصين ولجان تحقيق تابعة لمجلس حقوق الإنسان وغيرها. تولي المحكمة أهمية لعمل هذه الهيئات الدولية المؤلفة من خبراء مستقلين، وتحديدًا عمل لجان التحقيق التي تعمل بمعايير إثبات وجمع شهادات وأدلة جدية. وفي هذا السياق، ونظرًا لعلاقة المحكمة الخاصة مع منظمة الأمم المتحدة، فإنها ستستفيد بشكل خاص من عمل (المنشور وغير المنشور) لجنة التحقيق المعنية باستخدام القوة ضد المتظاهرين الفلسطينيين في قطاع غزة ضمن مسيرات العودة الكبرى التي أصدرت تقريرها في العام 2019، بالإضافة إلى لجنة التحقيق الدولية في انتهاكات القانون الدولي في إطار العدوان الإسرائيلي على غزة في العام 2014 التي أصدرت تقريرها في العام 2015.
حققت هذه اللجان بشكل معمق في الجرائم، وتعاملت مع حالات عينية، وقدمت خلاصات حول ارتكاب جرائم حرب، كما أوصت باتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان محاسبة مرتكبي الجرائم، وأكدت بأن إسرائيل لا تحقق فيها بشكل جدي. وذهبت لجنة التحقيق في مسيرات العودة إلى حدّ تحضير قائمة سرية بالمسؤولين الإسرائيليين عن ارتكاب الجرائم، وإيداعها لدى مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وذلك لكي تسلمها للمحكمة بناء على طلبها.
يشكل كل هذا بالطبع نقطة قوة للفلسطينيين في التحقيق، إلا أنه من المهم التذكير بإن التحقيق في الجرائم الكبرى على مستوى المحكمة الجنائية الدولية هو مسألة معقدة، ولأنها محكمة جنائية فإنها تتطلب درجة عالية من معايير الإثبات وتوثيق الأدلة والشهادات، وهذا يعني أنها ستنظر للعمق في هذه المواد وستقوم بإجراء تحقيقها الخاص، الذي ستسعى إسرائيل لعرقلته بالتأكيد من خلال منع وصولها للأدلة والشهادات مستقبلًا.
مقبولية الملفات
في مرحلة الدراسة الأولية ومرحلة التحقيق، يقع على عاتق مكتب المدعي العام تقييم مقبولية الملفات التي ستنتج عن الحالة، وسيكون عليه إثباتها أمام المحكمة. أحد أهم العوامل في هذا السياق هو مبدأ التكاملية بحسب البند 17 (1) (أ) لنظام روما، الذي يفيد بأن المحكمة لا تستطيع قبول دعوى في حال كانت الدولة الوطنية صاحبة الولاية تجري التحقيق أو المقاضاة في الدعوى. إلا أن ذلك مشروط بوجود رغبة وقدرة حقيقية لدى الدولة المعنية بإجراء التحقيق والمقاضاة.
وفي ما يتعلق في “الحالة في فلسطين” فقد أشارت المدعية العامة فاطو بنسودا في خلاصات الدراسة الأولية بأنها وصلت لاستنتاج بحسبه ستكون الملفات المتعلقة في بعض الجرائم مقبولة، أما الأخرى فما زالت قيد الفحص. فمبدأ التكاملية لن يكون عائقًا في ما يتعلق بجرائم الاستيطان أو الملفات المتعلقة بالفصائل الفلسطينية، لغياب أي تحقيق أو محاكمة وطنية قائمة في هذا السياق. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستيطان هو سياسة واضحة وموثقة للحكومة الإسرائيلية، لا تتم مراجعتها حتى على يد السلطة القضائية، لأن المحاكم تعتبرها شأنًا سياسيًا غير قابل للتقاضي، وتكتفي بالتعامل مع الأسئلة القانونية المتعلقة ببعض الانتهاكات الناجمة عنها.
أما بخصوص الجرائم المرتكبة في سياق مسيرات العودة في العام 2018، فلم تصرح المدعية العامة بوضوح بخصوص مقبوليتها، واكتفت بالتأكيد بأن الجرائم ستكون مشمولة في نطاق التحقيق بالحالة. ويرجح أن تعتبر الملفات في هذا السياق مقبولة لأن المحكمة الإسرائيلية العليا صادقت على تعليمات إطلاق النار المنافية للقانون الدولي، وبالتالي فإن أي تحقيق في جرائم إطلاق النار على المتظاهرين لن يكون جديًا لكونه سينطلق من كون الفعل قانونيًا.
وفيما يتعلق بالملفات المتعلقة بالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في حربها على غزة في العام 2014، فإن مقبوليتها لا تزال قيد الفحص بحسب المدعية العامة. ينبع ذلك من سعي إسرائيل لسنوات لإنشاء جهاز تحقيق صوريّ متمثلًا في النيابة العسكرية ومكتب المستشار القضائي للحكومة كهيئة استئناف في ما يتعلق بالتحقيقات بالجرائم التي يرتكبها أشخاص في الجهاز العسكري. وعلى الرغم من أن هذه التحقيقات لم تؤد إلى أي إدانة متعلقة بجرائم كبرى ارتكبت خلال الحرب في العام 2014، فإن ذلك قد لا يكون كافيًا للمدعية العامة.
في هذا السياق، على مكتب المدعي العام والمحكمة أن يقيما سؤال المقبولية بحسب البند 17 (1) (ب) الذي يتعامل مع الحالات التي تدعي فيها الدولة بأنها تحقق في الجرائم لكنها لم تقاض المتهمين المعنيين، لغياب الرغبة أو القدرة، في هذه الحالة يكون للمحكمة الصلاحية. وفي حالة إسرائيل على خلاف الدول غير القادرة على التحقيق، على المدعية العامة إثبات غياب الرغبة للتحقيق وذلك بهدف حماية الجناة. إلا أن تقييمًا شبيهًا في ما يتعلق في “الحالة في العراق” أدى لإغلاق الدراسة الأولية فيما يتعلق بجرائم بشعة ارتكبها الجيش البريطاني في سياق الحرب على العراق، على الرغم من وجود إخفاقات كبيرة جدًا في التحقيقات الجنائية البريطانية تحولها لتحقيقات صوريّة، وعلى الرغم من عدم إدانة أي شخص بارتكاب الجرائم. وعلى الرغم من كون هذا القرار غير إلزامي، فإنه يعكس طريقة تعامل مكتب الادعاء مع سؤال المقبولية، حيث يعطي نقاط قوة للدول الأقوى القادرة على حماية مرتكبي الجرائم عبر خلق منظومات عدالة صوريّة ووهم حول قيامها بالتحقيق. يأتي هذا في ظل اتهامات تاريخية للمحكمة بالتحيز ضد الدول الأفريقية وعدم التجرؤ على المس بالدول الأقوى، فمثلًا ضمن الـ 14 حالة في مرحلة التحقيق، هناك 10 حالات في نطاق دول أفريقية، الأمر الذي أدى بدول أفريقية لسحب توقيعها على نظام روما في العام 2016. إلا أننا نشهد في السنوات الأخيرة محاولات من قبل مكتب المدعي العام للتحقيق في حالات خارج أفريقيا، منها حالات تعرض المكتب بسببها لضغوطات سياسية وعقوبات، كالحالة في أفغانستان المتعلقة بارتكاب جنود أميركيين جرائم حرب.
وفي سياق سؤال المقبولية، أرسلت المدعية العامة، في آذار 2021، توجهًا للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بحسب البند 18 لنظام روما، بحسبه أمهلت الطرفين شهرًا لإعلام المحكمة حول نيتهما التحقيق في الجرائم على المستوى الوطني. ردت إسرائيل في اليوم الأخير للمهلة بأن لا صلاحية للمحكمة الجنائية الدولية، وبأنها تحقق بنفسها في “أحداث غزة”. وبهذا تكون إسرائيل قد حافظت على قرارها السياسي بعدم إعطاء الشرعية للمحكمة، إلا أنها حاولت الاستفادة من التوجه من خلال ذكر تحقيقاتها بخصوص غزة ضمن الرد، في محاولة لإيصال رسالة حول مقبولية الملفات في هذا السياق. ومن غير الواضح كيف ستتعامل المدعية العامة مع الرد، وفيما كانت ستعتبره ردًا يمكن الأخذ به كطلب من مكتب المدعي العام للتنازل عن التحقيق في هذه الملفات بحسب البند 18 (2).
الرد الإسرائيلي
منذ بدء مسار المحكمة الجنائية الدولية بخصوص “الحالة في فلسطين”، رفضت إسرائيل التعاون مع المحكمة، إلا أنها تحاول باستمرار أن تطرح موقفها وحججها القانونية دون المشاركة المباشرة في الإجراءات، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بموقع نزع الشرعية عن المحكمة والتشكيك في قراراتها.
بعد إعلان المدعية العام بدأ الدراسة الأولية في الحالة في فلسطين في العام 2015، شنت إسرائيل هجومًا على المحكمة واتهمتها بأنها جسم سياسي منحاز وبدأت بتشغيل اللوبي الإسرائيلي للضغط على الدول الحليفة لها والتي تمول المحكمة لقطع التمويل.كما عملت بالتعاون مع منظمات حليفة لنزع الشرعية عن المنظمات الحقوقية الفلسطينية التي تتعاون مع المحكمة والتشهير بها وبالعاملين فيها. وصل الأمر إلى حدّ تلقي بعض العاملين على ملف المحكمة الجنائية الدولية في هذه المنظمات لتهديدات مباشرة على سلامتهم وحياتهم.
بعد إصدار القرارين الأخيرين بخصوص الولاية الإقليمية للمحكمة وفتح ملف التحقيق في الحالة في فلسطين، شنت إسرائيل وقياداتها هجمة شرسة على المحكمة واتهمتها بالتسييس واللاسامية وغيرها، كما وصف نتنياهو قرار المدعية العامة بفتح التحقيق بأنه “لا سامية غير مخففة وذروة النفاق” وبأن المحكمة التي أنشئت لمنع تكرار جرائم النازية ضد اليهود، تصوب سلاحها اليوم نحو الدولة اليهودية الوحيدة، فيما تتجاهل جرائم دول أخرى كسورية وإيران.
في أعقاب القرارات، عيّن الجيش الإسرائيلي الجنرال إيتاي فيروف لقيادة معركتها ضد المحكمة الجنائية الدولية وهو بالمناسبة ضابط تم اتهامه من قبل منظمات حقوقية اسرائيلية، في العام 2009، بإعطاء أوامر وتشجيع ارتكاب جرائم ضد مدنيين فلسطينيين. كما خرجت وزارتا القضاء والخارجية ببيان مشترك تؤكدان فيه استعدادهما للدفاع عن الإسرائيليين الذين ستتم ملاحقتهم من قبل المحكمة. واستخدم البيان قرار المدعية العامة بإغلاق الحالة في العراق لتدعيم موقف إسرائيل كونها تجري تحقيقات بشكل مشابه لبريطانيا.
وكانت إسرائيل قد بدأت في العام 2020 بتحضير قائمة ل 200 -300 مسؤول إسرائيلي من المحتمل أن تلاحقهم المحكمة، حيث سيطلب منهم الامتناع عن السفر إلى خارج البلاد. تشمل القائمة رئيس الحكومة، ووزراء الأمن، ورؤساء الشاباك الحاليين والسابقين وجنرالات في الجيش وأصحاب مناصب أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تعمل إسرائيل على عرقلة عمل المحكمة ومكتب المدعي العام لوجستيًا، كمنع المحققين من الدخول للضفة الغربية وقطاع غزة كما فعلت مرارًا مع خبراء دوليين تابعين للأمم المتحدة، بالإضافة لمحاولة تهديد من يتعاون مع المحكمة وعرقلة جمع الأدلة ومنع الشهود من الإدلاء بشهادتهم. جاء آخر هذه الخطوات على شكل نقاش اقتراح قانون يجرم التعاون مع المحكمة مع التهديد بالسجن خمس سنوات لمن يفعل ذلك، ويفرض عقوبات على المحكمة، كما يتيح لإسرائيل التصرف بكل وسيلة لحماية من يتعرض للملاحقة من مسؤوليها، وذلك على غرار قانون سنته الولايات المتحدة في العام 2002.
كما قدم رئيس كتلة الليكود في الكنيست ميكي زوهار اقتراح قانون شبيهًا يتيح لإسرائيل الإعلان عن مؤسسة دولية كـ “مؤسسة دولية معادية” بهدف فرض عقوبات مختلفة عليها، كمنع الدخول لإسرائيل، وغيره. في حالة الإعلان، ينص اقتراح القانون على المنع التام للتعاون مع المؤسسة حتى من قبل أجسام حكومية (باستثناءات محدودة جدًا)، كما معاقبة من يقدم أي طلب إليها باتخاذ خطوات ضد اسرائيل بعقوبة قد تصل للسجن مدة سبع سنوات. ويعطي اقتراح القانون الصلاحية لإسرائيل بعدم تسليم المطلوبين لـ “مؤسسة دولية معادية” كما تشريع استخدام كل الوسائل لـ “تحرير” معتقلين إسرائيليين لديها.
بالإضافة إلى الرد الاسرائيلي المباشر، تسعى إسرائيل لتجنيد دول حليفة في معركتها ضد المحكمة، فبعد تجنيدها لتقديم مذكرات للمحكمة بخصوص الولاية الإقليمية، خرجت بعض هذه الدول مؤخرًا (حتى الأعضاء في جمعية الدول الأطراف) بإدانات لقراري المحكمة ومكتب الادعاء العام الأخيرين، على رأس هذه الدول ألمانيا وهنغاريا،وبريطانيا، والولايات المتحدة بقيادة بايدن.
وربما كانت أبرز خطوات الضغط على المحكمة هي الأمر التنفيذي الذي أقرته إدارة ترامب في العام 2020، حيث يفرض عقوبات على مكتب الادعاء العام، ردًا على تصعيد المحكمة بخصوص ملفي فلسطين وأفغانستان، فأجاز ترامب تجميد الأصول وفرض حظر سفر عائلي ضد بعض مسؤولي المحكمة، واستهداف الذين يُساعدون المحكمة في تحقيقاتها، كما ألغى في العام 2019 تأشيرة المدعية العامة لزيارة الولايات المتحدة. ألغى بايدن هذه القرارات في شهر نيسان 2021، إلا أنه إدارته أدانت قرارات المحكمة والمدعية العامة الأخيرة بشأن الحالة في فلسطين.
ويبقى السؤال مفتوحًا حول تأثير قرار فتح التحقيق على استمرار الجرائم الإسرائيلية على الأرض، كونه من المحتمل أن يتم ضم أي جرائم ترتكب على نطاق واسع مستقبلًا لتحقيقات مكتب المدعي العام. بعد إصدار القرار، خرج رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في تصريح يؤكد فيه بأن التحقيق لن يردع الجيش الإسرائيلي، وبأن الجيش لن يسمح لأي منظمة أجنبية بالتدخل بعمله في سبيل “حماية إسرائيل” أو بتعريض الخادمين فيه لمخاطر قانونية.
ويبدو من التصريحات الإسرائيلية بأن إسرائيل مشغولة بنزع الشرعية عن المحكمة وتشكيل الضغط عليها وعرقلة التحقيق لحماية مسؤوليها، ولا يبدو بأنها تأخذ أي خطوات جدية لوقف ارتكاب جرائم أو التخفيف منها. وبالعكس فإن القيادات الإسرائيلية مستمرة بالتأكيد على كون الجرائم المرتكبة هي جزء من دفاع إسرائيل عن نفسها وحمايتها لـ “ديمقراطيتها”، كما أنها لم تبد أي تراجع عن سياساتها وعلى رأسها الاستيطان الذي يشكل إحدى أهم القضايا أمام المحكمة.
خاتمة
يشكل فتح التحقيق في المحكمة الجنائية فرصة كبيرة للفلسطينيين والمنظمات الفلسطينية التي طالما عملت لتحقيق بعض المكتسبات على مستوى العدالة الجنائية الدولية ومحاسبة إسرائيل. كما أنه اعتراف مهم بالغبن الذي وقع على الفلسطينيين من ضحايا هذه الجرائم. وفي حال تقدم المسار بشكل جدي، فإنه قد يشكل أداة ردع لإسرائيل وقد يؤثر على تكرار هذه الجرائم.
إلا أن ذلك منوط بالأداء الفلسطيني في المقابل، فبالإضافة للعمل بالغ الأهمية لمؤسسات المجتمع المدني الحقوقية، فإن جزءًا كبيرًا من الدفع في هذا المسار يعتمد على الجهود السياسية والدبلوماسية للقيادة الفلسطينية في مواجهة استشراس إسرائيل. يضع هذا المسار تحديًا جديًا أمام القيادة الفلسطينية، فحتى اليوم كان مسار الاعتراف بدولة فلسطين وبعده اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية والعمل القانوني لمحاسبة إسرائيل دوليًا، ورقة ضغط سياسي على إسرائيل لإعادتها لطاولة المفاوضات أو التراجع عن خطوات عينية كضم مناطق في الضفة الغربية وغيرها. إن العمل القانوني أمام المحكمة الجنائية الدولية كما العمل السياسي والدبلوماسي للضغط على إسرائيل لا يمكن إلا أن يكون جزءًا من استراتيجيات وطنية تحررية فلسطينية أوسع. فعلى الرغم من كون القانون الدولي أداة مهمة استخدمها الفلسطينيون وحركات تحرر أخرى في العالم، فإنه ليس أداة تحررية بحدّ ذاته، بل هو كأي منظومة أخرى محكوم بعلاقات القوة والهيمنة الدولية. وقد يفتح الفرصة أمام الفلسطينيين لردع اسرائيل ومحاسبتها ومحاسبة مسؤوليها على المستوى الدولي، إلا أن تطبيق مخرجات هذه المسارات القانونية سيكون صعب التحقيق في ظل غياب جهاز مركزي دولي لتنفيذ أحكامها أو توصياتها، وبالتالي فإن الاستثمار في هذا المسار والاستفادة منه منوط بخلق جهد فلسطيني تحرري حقيقي على الأرض يفرض علاقات قوة مختلفة، بدل من وضع الضعف والتفتت الفلسطيني الحالي في مقابل تصاعد قوة مشروع إسرائيل وتأثيره في المنطقة والعالم.
نقلا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار”